إبلاغ عن خطأ
ملحوظات عن القصيدة:
بريدك الإلكتروني - غير إلزامي - حتى نتمكن من الرد عليك
ادخل الكود التالي:
انتظر إرسال البلاغ...
|
على قمّةٍ من جبال الشمال كَسَاها الصَّنَوْبَرْ |
وغلّفها أفُقٌ مُخْمليٌّ وجوٌّ مُعَنْبَر ْ |
وترسو الفراشاتُ عند ذُرَاها لتقضي المَسَاءْ |
وعند ينابيعها تستحمّ نجومُ السَّمَاءْ |
هنالكَ كان يعيشُ غلامٌ بعيدُ الخيالْ |
إذا جاعَ يأكلُ ضوءَ النجومِ ولونَ الجبالْ |
ويشربُ عطْرَ الصنوبرِ والياسمين الخَضِلْ |
ويملأ أفكارَهُ من شَذَى الزنبقِ المُنْفعلْ |
وكان غلامًا غريبَ الرؤى غامض الذكرياتْ |
وكان يطارد عطر الرُّبَى وصَدَى الأغنياتْ |
وكانت خلاصةُ أحلامِهِ أن يصيدَ القَمَرْ |
ويودعَهُ قفصًا من ندًى وشذًى وزَهَرْ |
وكان يقضِّي المساءَ يحوك الشباكَ ويَحْلُمْ |
يوسّدُهُ عُشُبٌ باردٌ عند نبع مغمغِمْ |
ويسْهَرُ يرمُقُ وادي المساء ووجْهَ القَمَرْ |
وقد عكستْهُ مياهُ غديرٍ بَرُودٍ عَطِرْ |
وما كان يغفو إذا لم يَمُرّ الضياءُ اللذيذ |
على شَفَتيهِ ويسقيهِ إغماءَ كأسِ نبيذْ |
وما كان يشربُ من منبع الماء إلاّ إذا |
أراق الهلالُ عليه غلائلَ سكرى الشَّذَى |
وفي ذات صيفٍ تسلّل هذا الغلامُ مساءْ |
خفيفَ الخُطَى عاريَ القدمين مَشُوقَ الدماءْ |
وسار وئيدًا وئيدًا إلى قمَّةٍ شاهقهْ |
وخبّأ هيكلَهُ في حِمَى دَوْحةٍ باسقهْ |
وراح يعُدّ الثواني بقلبٍ يدُقّ يدُقّ |
وينتظرُ القَمَرَ العذْبَ والليلُ نشوانُ طَلْقُ |
وفي لحظةٍ رَفَعَ الشَّرْقُ أستارَهُ المُعْتمهْ |
ولاحَ الجبينُ اللجينيّ والفتنةُ المُلْهِمهْ |
وكان قريبًا ولم يَرَ صيّادَنا الباسما |
على التلِّ فانسابَ يذرَعُ أفْقَ الدُّجَى حالما |
... وطوّقَهُ العاشقُ الجبليّ ومسّ جبينَهْ |
وقبّلَ أهْدابَهُ الذائباتِ شذًى وليونهْ |
وعاد به: ببحارِ الضِّياءِ بكأس النعومهْ |
بتلك الشفاهِ التي شَغَلتْ كل رؤيا قديمهْ |
وأخفاه في كُوخه لا يَمَلّ إليه النَّظَرْ |
أذلكَ حُلْمٌ? وكيف وقد صاد.. صادَ القَمرْ? |
وأرقَدَه في مهادٍ عبيريّةِ الرّوْنقِ |
وكلّلَهُ بالأغاني بعيْنيهِ بالزّنْبقِ |
وفي القريةِ الجبليّةِ في حَلَقات السّمَرْ |
وفي كلّ حقلٍ تَنَادَى المنادون: أين القمر?! |
وأين أشعّتُهُ المُخْمليّةُ في مَرْجنا? |
وأين غلائلُهُ السُّحُبيّة في حقلنا? |
ونادت صبايا الجبالِ جميعًا نُريدُ القَمَرْ! |
فردّدتِ القُنَنُ السامقاتُ: نُريدُ القَمَرْ |
مُسامِرُنا الذهبيّ وساقي صدى زَهْرنا |
وساكبُ عطر السنابِل والورد في شَعْرنا |
مُقَبّلُ كلّ الجِراح وساقي شفاه الورودْ |
وناقلُ شوقِ الفَرَاشِ لينبوعِ ماءٍ بَرودْ |
يضيءُ الطريقَ إلى كلّ حُلْمٍ بعيدِ القَرَارْ |
ويُنْمي جدائلَنا ويُريقُ عليها النُّضَارْ |
ومن أينَ تبرُدُ أهدابُنا إن فَقَدْنا القَمَر? |
ومَنْ ذا يرقّقُ ألحاننا? مَن يغذّي السّمَرْ? |
ولحنُ الرعاةِ تردّدَ في وحشةٍ مضنيهْ |
فضجّتْ برَجْعِ النشيدِ العرائشُ والأوديهْ |
وثاروا وساروا إلى حيثُ يسكُنُ ذاكَ الغُلامْ |
ودقّوا على البابِ في ثورةٍ ولَظًى واضطرامْ |
وجُنّوا جُنُونًا ولم يَبْقَ فوق المَرَاقي حَجَرْ |
ولا صخرةٌ لم يُعيدا الصُّرَاخَ: نُريدُ القَمَرْ |
وطاف الصّدَى بجناحَيْهِ حول الجبالِ وطارْ |
إلى عَرَباتِ النجومِ وحيثُ ينامُ النّهَارْ |
وأشرَبَ من نارِهِ كلّ كأسٍ لزهرةِ فُلِّ |
وأيقَظَ كلّ عبيرٍ غريبٍ وقَطْرةِ طلِّ |
وجَمّعَ مِن سَكَراتِ الطبيعةِ صوتَ احتجاجْ |
ترددَ عند عريش الغلامِ وراء السياجْ |
وهزَّ السكونَ وصاحَ: لماذا سَرَقْت القَمَرْ? |
فجُنّ المَسَاءُ ونادى: وأينَ خَبَأْتَ القَمَرْ? |
وفي الكوخِ كان الغلامُ يضُمّ الأسيرَ الضحوكْ |
ويُمْطرُهُ بالدموع ويَصْرُخُ: لن يأخذوك? |
وكان هُتَافُ الرّعاةِ يشُقّ إليهِ السكونْ |
فيسقُطُ من روحه في هُوًى من أسًى وجنونْ |
وراح يغنّي لملهِمه في جَوًى وانْفعالْ |
ويخلطُ بالدَّمْع والملح ترنيمَهُ للجمالْ |
ولكنّ صوتَ الجماهيرِ زادَ جُنونًا وثورهْ |
وعاد يقلِّبُ حُلْمَ الغلامِ على حدِّ شفرهْ |
ويهبطُ في سَمْعه كالرّصاص ثقيلَ المرورْ |
ويهدمُ ما شيّدتْهُ خيالاتُهُ من قصور |
وأين سيهرُبُ? أين يخبّئ هذا الجبينْ? |
ويحميهِ من سَوْرة الشَّوْقِ في أعين الصائدين? |
وفي أيّ شيء يلفّ أشعَّتَهُ يا سَمَاءْ |
وأضواؤه تتحدّى المخابئَ في كبرياءْ? |
ومرّتْ دقائقُ منفعِلاتٌ وقلبُ الغُلامْ |
تمزِّقُهُ مُدْيةُ الشكِّ في حَيْرةٍ وظلامْ |
وجاء بفأسٍ وراح يشقّ الثَّرَى في ضَجَرْ |
ليدفِنَ هذا الأسيرَ الجميلَ وأينَ المفرْ? |
وراحَ يودِّعُهُ في اختناقٍ ويغسِلُ لونهْ |
بأدمعِه ويصُبّ على حظِّهِ ألفَ لعنَهْ |
وحينَ استطاعَ الرّعاةُ المُلحّون هدْمَ الجدارْ |
وتحطيمَ بوّابةِ الكوخ في تَعَبٍ وانبهارْ |
تدفّقَ تيّارهم في هياجٍ عنيفٍ ونقمهْ |
فماذا رأوا? أيّ يأسٍ عميق وأيّة صَدْمَهْ! |
فلا شيءَ في الكوخ غيرَ السكون وغيرَ الظُّلَمْ |
وأمّا الغُلامُ فقد نام مستَغْرَقًا في حُلُمْ |
جدائلُهُ الشُّقْرُ مُنْسدلاتٌ على كَتِفَيهِ |
وطيفُ ابتسامٍ تلكّأ يَحلُمُ في شفتيهِ |
ووجهٌ كأنَّ أبولونَ شرّبَهُ بالوضاءهْ |
وإغفاءةٌ هي سرّ الصَّفاءِ ومعنى البراءهْ |
وحار الرُّعاةُ أيسرقُ هذا البريءُ القَمَرْ? |
ألم يُخطِئوا الاتّهام ترى? ثمّ... أينَ القَمَرْ? |
وعادوا حَيارى لأكواخهم يسألونَ الظلامْ |
عن القَمَر العبقريّ أتاهَ وراءَ الغمامْ? |
أم اختطفتْهُ السَّعالي وأخفتْهُ خلفَ الغيومْ |
وراحتْ تكسّرُهُ لتغذّي ضياءَ النجومْ? |
أمِ ابتلعَ البحرُ جبهتَهُ البضّةَ الزنبقيّهْ? |
وأخفاهُ في قلعةٍ من لآلئ بيضٍ نقيّهْ? |
أم الريحُ لم يُبْقِ طولُ التنقّلِ من خُفِّها |
سوى مِزَقٍ خَلِقاتٍ فأخفتْهُ في كهفها |
لتَصْنَعَ خُفّينِ من جِلْدِهِ اللّين اللَّبَنيّ |
وأشرطةً من سَناهُ لهيكلها الزنبقي |
وجاء الصباحُ بَليلَ الخُطَى قمريّ البرُودْ |
يتوّجُ جَبْهَتَهُ الغَسَقيَّةَ عِقْدُ ورُودْ |
يجوبُ الفضاءَ وفي كفّه دورقٌ من جَمالْ |
يرُشّ الندى والبُرودةَ والضوءَ فوق الجبالْ |
ومرَّ على طَرَفَيْ قدمَيْه بكوخ الغُلامْ |
ورشَّ عليه الضياءَ وقَطْرَ النَّدى والسَّلامْ |
وراح يسيرُ لينجز أعمالَهُ في السُُّفُوحْ |
يوزِّعُ ألوانَهُ ويُشِيعُ الرِّضا والوضوحْ |
وهبَّ الغلامُ مِنَ النوم منتعشًا في انتشاءْ |
فماذا رأى? يا نَدَى! يا شَذَى! يا رؤى! يا سماءْ! |
هنالكَ في الساحةِ الطُّحْلُبيَّةِ حيثُ الصباحْ |
تعوَّدَ ألاَّ يَرَى غيرَ عُشْبٍ رَعَتْهُ الرياحْ |
هنالكَ كانت تقومُ وتمتدّ في الجوِّ سِدْرَهْ |
جدائلُها كُسِيَتْ خُضْرةً خِصْبةَ اللون ِثَرَّهْ |
رعاها المساءُ وغذَّت شذاها شِفاه القَمَرْ |
وأرضَعَها ضوءُه المختفي في الترابِ العَطِرْ |
وأشربَ أغصانَها الناعماتِ رحيقَ شَذَاهُ |
وصبَّ على لونها فضَّةً عُصِرَتْ من سَناهُ |
وأثمارها? أيّ لونٍ غريبٍ وأيّ ابتكارْ |
لقد حار فيها ضياءُ النجومِ وغارَ النّهارْ |
وجُنّتْ بها الشَّجَراتُ المقلِّدَةُ الجامِدَهْ |
فمنذ عصورٍ وأثمارُها لم تَزَلْ واحدهْ |
فمن أيِّ أرضٍ خياليَّةٍ رَضَعَتْ? أيّ تُرْبهْ |
سقتْها الجمالَ المفضَّضَ? أي ينابيعَ عذْبَهْ? |
وأيةُ معجزةٍ لم يصِلْها خَيالُ الشَّجَرْ |
جميعًا? فمن كلّ غُصْنٍ طريٍّ تَدَلَّى قَمَرْ |
ومرَّتْ عصورٌ وما عاد أهلُ القُرى يذكرون |
حياةَ الغُلامِ الغريبِ الرُّؤى العبقريِّ الجُنون |
وحتى الجبالُ طوتْ سرّه وتناستْ خطاهُ |
وأقمارَهُ وأناشيدَهُ واندفاعَ مُناهُ |
وكيف أعادَ لأهلِ القُرى الوالهين القَمَرْ |
وأطلَقَهُ في السَّماءِ كما كانَ دونَ مقرْ |
يجوبُ الفضاءَ ويَنْثرُ فيه النَّدَى والبُرودهْ |
وشِبْهَ ضَبابٍ تحدّر من أمسياتٍ بعيدهْ |
وهَمْسًا كأصداء نبعٍ تحدّر في عمْق كهفِ |
يؤكّدُ أنَّ الغلامَ وقصّتَهُ حُلْمُ صيفِ |