زُر السجن في بغداد زورة راحم |
لتَشهَد للأنكاد أفجع مشهد |
محلّ به تهفو القلوب من الأسى |
فإن زرتَه فاربط على القلب باليد |
مربَّع سور قد أحاط بمثله |
محيط بأعلى منه شِيدَ بقرمد |
وقد وصلوا ما بين ثان وثالث |
بمعقود سقف بالصخور مُشيَّد |
وفي ثالث الأسوار تشجيك ساحةٌ |
تمور بتيّار من الخسف مُزبِد |
ومن وسط السور الشَماليّ تنتهي |
إليها بمسدود الرتاجين مُوصَد |
هي الساحة النكراء فيها تلاعبَتْ |
مخاريق ضيم تخلِط الجِدّ بالدَد |
ثلاثون متراً في جدار يحيطها |
بسمكٍ زهاءِ العشر في الجو مُصعِد |
تواصلت الأحزان في جنباتها |
بحيث متى يبَلَ الأسى يَتَجدَّد |
تَصَعَّدَ من جوف المراحيض فوقها |
بخار إذا تَمرُرْ به الريح تَفْسُد |
هناك يودّ المرء لوقاءَ نفسَه |
وأطلقها من أسر عيشٍ مُنكَّد |
فقف وسطها وانظر حوالَيْك دائراً |
إلى حُجَر قامت على كل مُقْعَد |
مقابر بالأحياء غصَّتْ لُحُودُها |
بخمس مئين أنفس أو بأزيد |
وقد عَمِيَتْ منها النوافذ والكُوى |
فلم تكتحل من ضوء شمس بمروَد |
تظنّ إذا صدرَ النهار دخلتَها |
كأنّك في قِطع من الليل أسود |
فلو كان للعُبّاد فيها إقامةٌ |
لصلَّوا بها ظهراً صلاة التَهَجُّد |
يزور هبوبُ الريح إلاّ فناءها |
فلم تَحْظَ من وصل النسيم بمَوْعد |
تَضيق بها الأنفاس حتى كأنما |
على كل حيزوم صفائح جَلْمَد |
وحتى كأن القوم شُدَّتْ رقابهم |
بحبل خِناق مُحكَم الفتل مُحصَد |
بها كل مخطوم الخشام مذلّلٍ |
متى قِيد مجروراً إلى الضيم ينقد |
يَبيت بها والهمّ ملءُ إهابه |
بليلةِ مَنْبُول الحشا غير مُقصَد |
يُميت بمكذوب العزاء نهاره |
ويحيي الليالي غيرَ نوم مُشَرَّد |
يَنُوءُ بأعباء الهوان مقيَّداً |
ويكفيه أن لو كان غير مقيّد |
وتَقْذِفهم تلك القبور بضغطها |
عليهم لحرّ الساحة المتوقِّد |
فيرفع بعض من حصير ظلالةً |
ويجلس فيها جلسة المتعبّد |
وليس تقيه الحرّ إلا تَعِلّةً |
لنفس خلت من صبرها المتبدّد |
وبالثوب بعض يستظِلُّ وبعضهم |
بنسج لعاب الشمس في القَيْظ يرتدي |
فمن كان منهم بالحصير مُظَّللاً |
يعدّونه ربّ الطِراف الممدّد |
تراهم نهار الصيف سُفْعاً كأنهم |
أثافيّ أصلاها الطُهاة بمَوْقِد |
وجوه عليها للشُحوب ملامح |
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد |
وقد عمّهم قَيد التعاسة مُوثَقاً |
فلم يتميّز مُطلَق عن مقيّد |
فسيّدهم في عيشه مثل خادم |
وخادمهم في ذُلّةِ مثل سيّد |
يخوضون في مستنقع من روائح |
خبائثَ مهما يَزْدَدِ الحرُّ تَزْدَد |
تدور رؤس القوم من شمّ نَتْنها |
فمَن يك منهم عادم الشمّ يُحسَد |
تراهم سكارى في العذاب وما هم |
سكارى ولكن من عذاب مُشدَّد |
وتحسبَهم دوداً يعيش بحمأة |
وما هو من دود بها متولِّد |
ألا رب حرّ شاهد الحكم جائراً |
يقود بنا قَوْد الذَلول المعبَّد |
فقال ولم يَجهَر ونحن بمنتدىً |
به غير مأمون الوشاية ينتدى |
على أي حكم أن لأية حكمة |
ببغداد ضاع الحقُّ من غير منشد |
فأدنيت للنجوى فمي نحو سمعه |
وقلت لأن العدل لم يتبغدد |
رعى الله حيّاً مستباحاً كأنه |
من الذُعر أسراب النَعام المطرَّد |
وما صاحب البيت الحقير بناؤها |
بأفزع من ربّ البّلاط الممرَّد |
وما ذاك إلاّ أنهم قد تخاذلوا |
ولم ينهضوا للخصم نهضة مُلِبد |
فناموا عن الجُلَّى ونمتُ كنومهم |
سوى نَوْحةٍ مني بشعر مغرِّد |
وهل أنا إلا من أولئك أن مشوا |
مشيت وأن يَقعُد أولئك أقعد |
وكمُ رمتُ أيقاظاً فأعيا هُبُوبُهم |
وكيف وعزم القوم شارب مُرقِد |
نهوضاً نهوضاً أيها القوم للعلا |
لتبنوا لكم بنيان مجدٍ مُوَطَّد |
تقدمنا قوم فأبْعَدَ شوطُهم |
وقد كان عنا شوطهم غيرَ مُبْعِد |
وسدّ علينا الاعتشافُ طريقَنا |
فأجحف بالغَوْريّ والمتنجِّد |
أفي كل يوم يزحف الدهر نحونا |
بجندٍ من الخطب الجليل مجنَّد |
فيا ربّ نَفِّس من كروب عظيمة |
ويا ربّ خفّف من عذاب مشدَّد |